ماهية الخلاف السياسي بين الشيرازية والخمينية
» التعريف بالشيرازيّة:
الشيرازيّة فرقةٌ من فرق الشِّيعَة الإماميّة، تفهم التشيُّع بفهمٍ خاصّ،
ولها رؤية انتقادية لغيرها من الفرق، وللمراجع الآخرين الذين لا ينتمون
إليها. وقد نشأت تيَّارًا فكريًّا وسياسيًّا، أسَّسه السيد محمَّد
الشيرازيّ في منتصف الستينيات في مدينة كربلاء بالعراق.
ويتّهمها خصومها بأنها تسعى، بل نجحت بالفعل في “طَقْسَنَة” التشيُّع، أي تحويله إلى طقوس وشعائر وتطبير!
(التطبير: هو تجريح الرأس بالآلات الحادّة، وإدماؤه. وهو تقليد ابتداعي من تقاليد تفجع الشعوب البدائية على موتاهم، انتقل إلى الشيعة من النصارى والهنود.. راجع: حسين علي الجبوري: تطبير الرؤوس وتجريح الأجساد تفجعا على مصرع الحسين، ط1/ الوراق 2016م. وراجع: زياد الدريس: سوسيولوجيا الدماء الدينية، 6 يناير 2010م).
وكان التيَّار الشيرازيّ قويًّا وشعبويًّا لدرجة أنه تقاسم الشارع
الشِّيعِيّ مع حزب الدعوة في الستينيات، فكان أشبه بالتيَّار الصدري الآن
في قوته وديناميته. فمنشئ التيَّار شاب صغير اسمه محمَّد الشيرازيّ (1928-
2001م)، ورث والدَه السيد مهدي الشيرازيّ، وجَدُّه السيد عبد الهادي
الشيرازيّ، وتَصدَّى للمرجعية دون اعتراف من علماء النجف، بل حذّر منه
السيد محسن الحكيم، ومن تيَّاره الذي كان يُسَمَّى في ذلك الوقت “حركة
الرساليين، أو حركة المرجعية”! ثم حذّر الخوئي منه ومن تيَّاره، واستمرّ
العراك الفقهي والسياسي بين الطرفين حتى يومنا هذا[1].
ولم يكُن للتيَّار نظرية سياسية حتى منتصف الستينيات، حين تَطوَّر الأساس
الفكري السياسي والأيديولوجي للحركة على يد محمَّد الشيرازيّ، بعد هروبه
إلى الكويت خوفًا من البعث العراقي، ثم إلى إيران موطنه الأصلي، وذهب أخوه
حسن الشيرازيّ إلى الشام مبشِّرًا بفكر التيَّار الشيرازيّ، مِمَّا أدَّى
إلى خلاف بينه وبين موسى الصدر في ذلك الوقت[2]!
» مرحلة الشيرازيّة الإيرانية:
دخلت الحركة الشيرازيّة في إيران مرحلة النموّ والانتشار بعد هجرة محمَّد
الشيرازيّ إليها، وكان من داعمي الثورة الإيرانية سنة 1979، وكان رأيه في
ولاية الفقيه كرأي آية الله حسين منتظري[3].
لذلك احتلّت منظَّمة العمل الشيرازيّة -كان يقودها محمَّد تقي المدرسي-
شوارع طهران ونصبوا المشانق لمعارضي الثورة، وتَمدَّدوا في الأجهزة الأمنية
والجيش والشرطة، لأن أغلبهم إيرانيون وُلدوا في كربلاء يحملون الجنسية
الإيرانية، وكان على رأس منظَّمة العمل في التسلسل الهرمي بعد محمَّد تقي
المدرسي: كمال الحيدري، ومحسن الحسيني، وهادي المدرسي، ثم خرج كمال الحيدري
في ما بعد، وأسَّس مرجعية منفصلة، وهو المرجع الشِّيعِيّ المعروف الآن.
» التغوُّل في بنية الدولة:
انتشرت الشيرازيّة في بنية الدولة الإيرانية فكانت أشبه بحركة فتح الله
كولن في تركيا، فقد سيطر الشيرازيّون على نصف بازار طهران، وعدد كبير من
الحسينيات في قم وأصفهان.
وقد اعتمد عليهم الحرس الثوري، خصوصًا مهدي الهاشمي[4]
في ما سُمّي بـ”نشر حركات التحرُّر” في السعودية والبحرين وعمان والسودان.
وقد مكَّنَتهم العلاقة الجيدة مع المسؤولين الإيرانيين من اقتراح تعيين
عدد من السفراء الإيرانيين الجُدُد في دول العالَم من المحسوبين على
التيَّار الشيرازيّ، وكان من بينهم السفراء في البحرين وعمان وغيرهما.
وأشرفت الحركة على القسم العربي في إذاعة طهران قبل اندلاع الحرب العراقية
الإيرانية[5].
وركّزوا جدًّا على الحسينيات والمنابر والفضائيات[6]
[الإعلام] في نشر منهجهم وبسط نفوذهم. فمن خلال الإعلام اكتسبوا قاعدة
جماهيرية شِيعِيَّة واسعة في الخليج العربي وإيران والعراق، وجاءتهم
الأموال والتبرُّعات من كل حَدَب وصوب، وكانوا هم الأكفأ في نشر التشيُّع
في كثير من البلدان الإفريقية وشمال المغرب العربي عن طريق الإعلام،
والإرساليات التبشيرية التي تبشِّر فقط بين المسلمين السُّنَّة، وليس من
أولوياتهم التبشير في أوساط النصارى أو اليهود[7].
» نشأةُ الخلافِ بين إيران والتيَّار الشيرازيّ
يمكننا حصر بذور الخلاف بين الشيرازيّين والخُمينيين في الآتي:
» إحراج النظام الإيراني:
كان آية الله حسين منتظري نائبًا رسميًّا للمرشد الأعلى الخُميني، وكان آية
الله منتظري محسوبًا على التيَّار المحافظ الراديكالي الذي يؤمن بعدم
التقارُب مع الغرب، ومع الخليج العربي.
وكان رفسنجاني وخامنئي في التيَّار المقابل المناهض لحسين منتظري، وكان
تيَّار رفسنجاني وخامنئي تيَّارًا براغماتيًّا لا يُمانع في الانفتاح على
الغرب في ذلك الوقت[8].
كان التيَّار الشيرازيّ وحركة الطلائع الرساليين يتمتعان بدعم إيراني رسمي
غير محدود، لا سيما من الجناح الراديكالي الذي يمثِّله منتظري في ذلك
الوقت! لكن حركة الطلائع الرساليين استثمرت المساحة المعطاة لها من
الإيرانيين بشكل أحرج إيران أكثر من مرة، فنفّذت الحركة مثلا عمليات عسكرية
محدودة داخل الأراضي العراقية قبل الحرب بين إيران والعراق.
وفي ديسمبر 1981م نفّذت الحركة محاولة انقلاب فاشلة في دولة البحرين، وقُبض
على بعض أعضائها، بعضهم من خارج البحرين. وطُرد السفير الإيراني من
البحرين بعد تلك المحاولة لاتهامه بمعرفة محاولة الانقلاب وتسهيلها. وكان
يدير الخليةَ هادي المدرسي [9].
وكانت تلك المحاولة محرجة جدًّا للقيادة السياسية الإيرانية، وبدأت هذه
التصرفات تشكِّل بداية الخلاف بين عدد من المسؤولين الإيرانيين والتيَّار
الشيرازيّ، لا سيما إذا أدركنا خلفيات وأبعاد الخلافات والصراعات بين أجنحة
النظام الإيراني، فحسين منتظري يدعم محمَّد الشيرازيّ وحركة الطلائع،
وخامنئي ورفسنجاني يقلقهما سياسة منتظري. ومع ذلك: لم تُغلِق إيران بعد
محاولة الانقلاب المعسكرات التدريبية في طهران لتلك التيَّارات التي كانت
تُسَمَّى “خلايا تصدير الثورة”[10]،
مِمَّا يدل على أن الخلاف فقط على أولويات الفعل لا على مبدأ الفعل نفسه،
أو ربما تم التنفيذ دون علم أو أمر مباشر من الحرس الثوري، ومن ثم فليس في
الوقت والمكان المناسبين من وجهة النظر الاستخباراتية للحرس. وواقع السياسة
الإيرانية الراهنة من التدخلات في شئون الإقليم والمنطقة دليل على ذلك.
» الشخصانية بين الشيرازيّ والخُميني:
كانت العلاقة بين الرجلين، محمَّد مهدي الشيرازيّ والخُميني، علاقة جيدة،
وحرص الشيرازيّ على تأمين استقبال كبير للخُميني حين وصل إلى العراق في
منتصف الستينيات، وكانت العلاقة بين الرجلين جيدة، خصوصًا أنهما يمثِّلان
خطّ التجديد الثوري، في مقابل حوزة النجف التقليدية، ولم يكن الخُميني
مُرحَّبًا به كثيرًا في أوساط الحوزوية النجفية[11].
كان الشيرازيّ قد سبق الخُميني نظريًّا في تأسيس نظرية ولاية الفقيه، فقد
كان الخُميني يطرح في الأربعينيات إدخال العلماء في مؤسَّسات الدولة تحت
مظلّة الشاه وحكمه[12]،
ولم يتخذ الخيار الثوري ضدّ سلطة الشاه إلا بعد أحداث المدرسة الفيضية في
قم 1963م. وبعد خروجه من إيران بدأت تتبلور عنده نظرية ولاية الفقيه. ولم
تتجلَّ إلا في نهاية الستينيات في سلسلة محاضراته بالنجف، التي ترجمها
محمَّد مهدي الآصفي، أحد قادة حزب الدعوة، وجُمعت في كتاب “الحكومة
الإسلامية”. وعليه فإنّ الشيرازيّ كان سبّاقًا في طرح نظرية ولاية الفقيه،
وربما أثّر في الخُميني نفسه. واستقرّ الخُميني في النجف، في حين استقر
الشيرازيّ في كربلاء، يدعو كل منهما إلى نفس الفكر وذات الطرح[13].
وظلّ الشيرازيُّ مؤمنًا بنفس ما يؤمن به الخُميني، وظلّا يعملان معًا على
إيجاد المجتمع المنشود لديهما، وتعاونا في نجاح الثورة، بل وفي تصديرها كما
مرّ، وكان الشيرازيّون هم المخوَّل إليهم تصدير الثورة وتدريب المستقدَمين
في معسكرات طهران.
ولَمّا رحّب الشيرازيّ بالثورة وانتقل للعيش في إيران بدأ يختلف مع
الخُميني والنظام الجديد، لأنّ طموحاته الشخصية كانت كبيرة جدًّا، واصطدم
بعدم حصوله على ما يستحقّه داخل النظام الإيراني. فكان ربما يطمح إلى أن
يكون نائبًا للخُميني، لكن الخُميني تجاهله وعيّن حسين منتظري. وفي عام
1981م عرض عليه الخُميني إمامة الجمعة في محافظة خوزستان [عربستان]، وأصابه
الإحباط بسبب هذا العرض الذي لم يظهر في وسائل الإعلام لكنه انتشر بين
أعضاء حركة الطلائع[14].
» اعتقال وإعدام فقهاء الشيرازيّين:
لم يتوانَ الخُميني في التخلُّص من خصومه ومن كلّ مَن يثبت أنّه يعارضه في
طرحه وأفكاره مهما كانت درجة القربى بينهما، وفي سنة 1982م اعتُقل صادق قطب
زادة وزير خارجية أول حكومة بعد قيام الثورة بتهمة التخطيط لاغتيال
الخُميني، واعترف قطب زادة بأنّ آية الله محمَّد كاظم شريعتمداري متورِّط
معه في التخطيط للمحاولة[15].
وكان شريعتمداري أحد أهمّ المراجع الدينية وأكبرها في مدينة قم وكان
معارضًا لولاية الفقيه التي اعتمدها الخُميني نظامًا للدولة بعد انتصار
الثورة، وكان اتهامه بمحاولة اغتيال الخُميني ووضعه قيد الإقامة الجبرية
وإنهاء علاقته بالحوزة في قم وإجباره على الظهور في التليفزيون حاسر الرأس
دون عمامته يعتذر ويطلب العفو من الخُميني مشهدًا مُهِينًا ومؤلِمًا
للشيرازيّ، فقرَّر الاعتكاف في بيته وعدم الخروج منه، وقد كان هذا تقليدا
مُتَّبَعًا من المراجع لإبداء السَّخَط والاعتراض، ولم يكُن قيد الإقامة
الجبرية كما أشاع بعض الشيرازيّين، بل إنه اختار هذا العكوف بنفسه احتجاجًا
على سياسة الخُميني[16].
» التحولات الفكرية للشيرازيّ:
هذه الأحداث المتسارعة التي حدثت بعد الثورة واستئثار الخُميني بالحكم في
الدولة الإيرانية، وتَبَخَّر حلم دولة العدالة والمؤسَّسات، فأدرك
الشيرازيُّ أنّ الثورة لم تؤتِ ثمارها وأنّ الثورة قد أبدلت ديكتاتورًا
بديكتاتور، وربما كانت ديكتاتورية الشاه أقلَّ خطرًا وأخفَّ ضرَرًا من
ديكتاتورية تتلبس لباس الدين والمذهب وتتحدث باسم الله في الأرض. وربما
اختلف موقف الشيرازيّ لو تَوَلَّى منصبًا دينيًّا رفيعًا في إيران الثورة
كما كان ينشد ويحلم، بَيْد أنّ الواقع أنّ الرجل قد غيَّر قناعاته بعد
خلافه مع الخُميني، وهدم نظرية ولاية الفقيه من أساسها، وأبدع نظرية “شورى
الفقهاء”.
وقد طالب الشيرازيّ بالشورى رغم أنه كان صارمًا في رفضها من قبل في أثناء
النقاشات التأسيسية لحزب الدعوة. ورغم أنّ حركته كانت تقوم على مبدأ
الولاءات لا الكفاءات، والشخصانية المطلقة حول القائد. فتلميذ الشيرازيّ
السيد محمَّد تقيّ المدرسي وقائد حركة الطلائع الرساليين كان يسيطر على
الحركة ولا يؤمن بالعمل الجماعي والمؤسسي والشورِيّ فيها. وكانت الحركة
بعيدة عن أي عملية انتخابية أو استفتاء داخلها، لأنه يختزل الدستور في
تعليمات القائد وتوجيهاته[17]، رغم ذلك كلّه فإنّه طالب بالشورى وأسَّس نظرية شورى الفقهاء.
» نظرية شورى الفقهاء
تقوم النظرية على اختيار الأُمَّة عددًا من الفقهاء ليديروا الحكم بالشورى في ما بينهم، والأخذ برأي الأغلبية.
أمّا ولاية فقيه على فقيه آخر فيرفضها الشيرازيّ، ويقول: “الفقيه حُجَّة
على مقلِّديه لا على فقيه آخر، أو مقلِّدي فقيه آخر، ولا فرق بين الفتوى
والحكم”[18].
وفي عبارة الشيرازيّ تلك يرفض نقطتين رئيسيتين كانتا سببًا في هيمنة إيران ومشاريعها التوسُّعية الآن، هما:
الأولى: أن رأي
الخُميني كفقيه يكون حُجَّة فقط على مقلِّديه، ولا يكون حُجَّة على فقيه
مجتهد مثله، كالسيستاني أو الخوئي، لأن كليهما مجتهد، وكليهما معدودٌ من
الفقهاء. فترجيح رأي أحدهما على الآخر هو ترجيح بلا مُرجّح. وبهذه النقطة
تُنتزع القداسة وصِفَة الإلزامية والوجوبية لأقوال الخُميني عن أقرانه من
الفقهاء في بلده وفي البلاد الأخرى مثل النجف وجبل عامل. فكلّ فقيه له
مقلّدوه، ولا يمكن إلزام مقلّدي فقيه باتِّباع أقوال فقيه آخَر لأنه في
موقع المسؤولية والإمامة. ومن أبعاد هذه التقريرات يترجَّح أن الرجل كان
يبغي توطين التشيُّع من حيث درى أو لا يدري، فيدعو إلى “عَرْقَنة” التشيُّع
العراقي، و”لَبْنَنة” التشيُّع اللبناني، بل ذهب إلى ما هو أكثر من ذلك:
أن التقليد الشِّيعِيّ حتى داخل الحوزة الواحدة في نفس البلد يجب أن يُحترم
وأنْ يُترك المقلِّد بكلّ حرية ليختار مرجعه الذي يريد تقليده، وفي هذا
تماسٌّ قريب من الفقه السنّي، في مسألة تمييز الفتاوى من الأحكام وتصرُّفات
القاضي والإمام[19].
الثانية: أنّه لا
فرق بين الفتوى والحكم، وهي نظرية أصولية مُهِمّة، يريد أن يُقرِّر مِن
ورائها أنّ الفقيه الذي يحكم وفي موضع مسؤولية وتشريع، مثله مثل الفقيه
الذي لا يحكم. أي: لا يصحّ حسب القواعد الفقهية والأصولية إنفاذ رأي فقيه
فقط لأنه في سُدَّة الحكم، وترك رأي فقيه آخر فقط لأنه ليس في صدارة الحكم،
فكما أن الفتوى لا تُلزِم مقلّدي فقيه آخَر، فكذلك الحكم لا يُلزِم مقلّدي
فقيه آخر.
في تقريرات الشيرازيّ ملمحٌ آخَر مهمّ جدًّا، هو أنّ كلّ المراجع عنده
نُوَّابٌ للمهديّ، ويترتب على ذلك وجوب إشراكهم جميعًا في قيادة الدولة،
وذلك يحدّ من استبداد فقيه واحد برأيه ويمنع الحكم الشخصانيّ المطلق.
ويرى الشيرازيّ أن الشورى مُلزِمة، وأن انتخاب المقلّدين للمرجع لا يوكله
بالمضيّ في إنفاذ قناعاته ورؤاه بعيدًا عن الشورى. وهذا أيضًا اجتهادٌ
وتَطَوُّر كبير في الفقه الشِّيعِيّ، ذلك أنّ الإمامة في الفقه الإمامي لا
شورى فيها، فالاختيار من الله، والحاكم نائب عن الله، ولا يمكن اعتراضه أو
تصويب مساره. وهذا قريب جدًّا من نظرية محمد باقر الصدر “ولاية الفقيه
المنتخب”[20].
ويبدو أنّ الشيرازيّ قد اكتوى بنار الاستبداد الذي يتلبس الثوب الإلهيّ
ويضع نفسه في هالة من القدسية، فأبدع نظرية “شورى الفقهاء” في مقابل نظرية
“ولاية الفقيه”.
» معالم نظرية شورى الفقهاء:
يمكن تحديد وتلخيص معالم النظرية في النقاط التالية:
1- الشورى مُلزِمة، لا اختيارية.
2- مشاركة المراجع كافَّةً في الحكم لأنهم جميعًا مجتهدون ونُوَّاب عن المهدي.
3- تقتصر فتوى المرجع وحكمه على أهل بلده، بل على مقلّديه فقط، ولا يتعدَّى إلى غيرهم باللزوم وقوّة السلطان وحسم القانون.
ونستبعد أن تكون نظرية بهذه القوّة والتأصيل الفقهي، مجرَّد ردّ فعل من
الشيرازيّ على إبعاد الخُميني له أو لمجرَّد الخلاف السياسي بين الرجلين،
بل نظنّ أنها جاءت بعد طول تأمُّل فقهيّ، وطول نظر في شؤون الدولة
الإيرانية في ما بعد الثورة، ونظر ثاقب في ما آلت إليه الأوضاع، ومدارسة
لكلّ جوانب الخلل في التطبيق العمليّ لنظرية ولاية الفقيه بصورتها
الخمينية، فعمل الشيرازيّ على سَدّ الثغرات التي ارتآها، وتقويم العثرات
التي اكتنفت نظرية ولاية الفقيه الخمينية عن طريق مأسسة النظرية كما بينا.
» حجرٌ في الماء الراكد:
تلك النظرية جعلت كثيرًا من الفقهاء يفكرون في ما آلت إليه ثورة 1979م، وهل
كانت غايتها استبدال ديكتاتور يلبس عمامة بديكتاتور يلبس قبعة!
فأعاد الفقهاء النظر الفقهي والأصوليّ والفلسفيّ في نظرية ولاية الفقيه،
تلك النظرية التي تعطي الحقّ المطلق للمرشد الأعلى أن يفعل ما يشاء. فلا
يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون، وهذا تقديس لشخص من المفترض أنه يُصيب
ويُخطِئ، ومن المفترض أنه عالِم في مجال دون مجالات، ومتخصِّص في شأنٍ دون
شؤون!
فخرج حسين منتظري بتعديلٍ جوهريّ على نظرية ولاية الفقيه، ووصف ولاية الفقيه المطلقة بأنها شِرْك، كما سبق ونقلنا عنه.
لكن قوبلت نظرية الشيرازيّ ومنتظريّ ومَن جاء بعدهما بكلّ قوة من المرشد نفسه و”جماعات المصالح”[21]
الملتفَّة حوله والمستفيدة من بقاء الوضع على ما هو عليه، اقتصاديًّا
وآيديولوجيًّا. فحُدِّدَت إقامة الشيرازيّ أو أُجبِرَ معنويًّا على العكوف
في منزله، ونفس الشيء حدث مع آية الله منتظري النائب الأول والمرشَّح
الأقوى لخلافة الخُميني.
نفس النظرية كرَّرها رفسنجاني بدبلوماسية أكثر، إلا أنه كذلك جُوبِهَ برفض
شديد من أنصار خامنئي، الذين هدَّدوه بالإقامة الجبرية ليلقى مصير آية الله
حسين علي منتظري الذي عُزل ومات تحت الإقامة الجبرية[22].
» التوظيف السياسي:
تطور فكر الشيرازيّة، ليس فقط في نظرية ولاية الفقيه بل في فروع الفقه
الشِّيعِيّ كافَّةً، وعملوا مع مرور الوقت على “طقسنة” المذهب، وإظهار
الشعائر بصورة مُبالَغ فيها[23]،
ويبدو أن المقصد من وراء هذا إبراز تَمَسُّكهم بالتشيُّع وحب آل البيت،
فكُلَّما أُظهِرَت الشعائر أحسّ المقلّد، أنّه أقرب للالتزام بالتشيُّع من
غيره. وربما برزت طقسنة التشيُّع أكثر عند التيَّار الشيرازيّ للإيحاء
بأنّه أقرب للتشيُّع وتعاليم المعصوم، مِن الفرق الشِّيعِيّة الأخرى، ومن
ثمّ فأولئك الذين يضطهدون هذا التيَّار على خطأ لأنهم يضطهدون الطقوس
الشِّيعِيَّة من خلفه. وهو ما حصل بمرور الوقت، إذ لا يجرؤ فقيه أو مرجع أن
ينتقد الطقوس والشعائر الْمُبالَغ فيها، كالضرب بالسيوف على الظهور،
والتطبير، ووصل الأمرُ إلى أن سُمِّي بعض الناس الذين يخدمون زوّار الحسين
والمقامات بأسماء مِن قَبيل: “كلب الحسين”[24]،
بدلًا من “خادم الحسين”، وهكذا. وهذه الطقوس لها أثر نفسي كبير على عموم
وعوام الشِّيعَة، فاستطاع الشيرازيُّون أن يكتسحوا الساحة الشِّيعِيّة في
بلادٍ كثيرة، وينافسوا دولة كبيرة مثل إيران في عملية التبشير وبسط النفوذ
على القواعد الجماهيرية، فلم يكن أمام الدولة الإيرانية إلا توظيف هؤلاء
سياسيًّا، ولو هاجموا نظام ولاية الفقيه في إيران، فإيران تحاول الاستفادة
سياسيًّا من كلّ عدوّ وصديق.
لذا فإنّ وجود التيَّار الشيرازيّ حتى الآن على الأراضي الإيرانية تستفيد منه إيران في النقاط التالية:
1- تَشَدُّد هذا
التيَّار ضدّ السُّنَّة تشدُّدًا غير مسبوق في تاريخ التشيُّع كلّه، ربما
فاق طرح القرامطة والإسماعيلية، في النَّيْل من رموز السُّنَّة ومن
الصحابة، ومن أُمَّهات المؤمنين. وهذا الطرح لا تعتنقه الدولة الإيرانية
بأجهزتها الرسمية ولا تقف بصرامة ضده، ومِن ثَمَّ فهو يغذِّي عملية
الكراهية مجتمعيًّا ضدّ السُّنَّة، وهو ما تستفيد منه إيران كحائط صدّ
ومانع من أي تعاطف شعبّي مع السُّنَّة في الداخل الإيراني أو في بعض
المناطق العربية كحلب وغيرها. وهذه التغذية جعلت خطيب طهران يصف احتلال
الميليشيات الشِّيعِيّة لحلب بأنه “حرب ضد الكفار”[25].
2- يُظهِر المرشد
وجماعته أنّه في منتصف الطريق بين المتشددين والمتسيِّبين، فيغلِّف تيَّاره
بالوسطية، لا سيما إذا دَعَت المؤسَّسات الرسمية إلى التقارب السُّنِّيِّ
الشِّيعِيّ وبحرمة سَبّ وقذف أُمَّهَات المؤمنين، وهكذا.
3- العراك الديني
والفقهي حول الطقوس والشعائر والدخول في متاهات الفروع الفقهية، والتصنيفات
في تلك المسائل، بين المراجع، ومن ثمّ بين الحوزات، وبين التلاميذ، كلّ
هذا يُفيد النظام السياسي الإيراني، بانشغال رجال الدين وتلاميذهم عن
المشكلات الاقتصادية ومشكلات نظام الحكم الداخلية، بتلك الفروع والجزئيات
والمتاهات، وهذه أبجدية من أبجديات أُطُر الاستبداد.
4- يستطيع النظام
الإيراني كبح جماح تلك الحركة وقت اللزوم إن استدعى الأمر، لكنّ بقاءها،
خصوصًا عملها في الخارج في لندن، وانتشارها في أوساط الشِّيعَة الحدود
الإيرانية، لا يمكن كبحه، ومِن ثَمَّ يمكن أن تستفيد منه إيران بتقديم بعض
أنواع الدعم المادي أو اللوجستي لهم، لتنفيذ مشاريعها الخاصة في المنطقة،
ولاحتوائهم.
» الخلاصة:
أنّ هناك شدّ وجذب داخليّ في إيران بين الفريقين، بيد أن كليهما يدركان
الاحتياج المتبادل، والتقاطعات المصلحية المشتركة، خارج الحدود. ويعرف
الشيرازيّون داخليًّا الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها، ويدرك النظام
احتياجه إلى هذا التيَّار العريض الواسع داخليًا وخارجيا، ويعمل على تطويعه
وأدلجته بدلًا من تحويله إلى معارض خشن ضد النظام على غرار حركة جولن في
تركيا، فيفقد النظام بؤره وجيوبه خارج حدود الدولة الإيرانية، ويفقد سيطرته
على قواعد شعبية عريضة هو في أشد الحاجة إليها، ولا يمكن للنظام المغامرة
بتلك المميزات لهذا التيَّار إلا إذا حول التيَّار من استراتيجيته ليكون
ثوريا وصداميًا ضد النظام، في ذلك الحين ليس أمام النظام إلا قرار المواجهة
والاستئصال الكلي، وهو صدام -إن حدث- غير مأمون الجوانب والنتائج.
إضافة تعليق جديد