لهذا وقفت تحت ظل الشيرازي
ياسر الحبيب
ربما يبدو غريبا أمام إخواني المؤمنين أن أكشف لهم حقيقة أنني لم أكن أقلّد السيد الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) إلا قبل استشهاده بسنوات ليست بالبعيدة، بل أضيف أنه لم يكن يخطر ببالي يوما أن أقلّد هذا المرجع أو أن أؤمن بأفكاره ودعواته، أو أن أعمل في سبيل الله بما يوافق رؤاه.
والاستغراب الذي قد ينتاب كثيرا من إخواني المؤمنين عند تصريحي بهذه الحقيقة علّته أنهم يعرفون عني أني من أشد المتحمسين للإمام الشيرازي (قدس سره) بل من الذين قد يراهم البعض يبالغون في تقديسه. والحق أن وراء هذا التحمّس الشديد والتقديس الكبير؛ قصة تحتاج إلى بيان، ولعل في هذا البيان نفع إن شاء الله تعالى. إلا أنني قبل أن أبدأ، أود أن أنفي عن نفسي صفة المبالغة في التقديس، فإني لم أدّع العصمة له (أعلى الله درجاته) كما ادعى غيري لغيره ممن علمتم! ولا قلت فيه ما لم أرَه فيه كما قال غيري من اختلاقات لصاحبه! ولئن كنت أراه بدلا من الأبدال، ووليا من أولياء الله الصالحين، فليس ذلك ذنبا أو جريرة، فهو هكذا حقا، ولا أقل منه ولربما كان أكثر. وما يدريني وقد عاينته وجالسته وخالطته مرارا، فوجدت فيه صفات لم أجدها حتى الساعة في آخر من البشر.
وليس من ضروب المبالغة أو المغالاة أن أعتبره رجلا نادرا كان بحق نائبا مرضيا عند إمام الزمان صلوات الله وسلامه عليه. ومن يكون كذلك، فإن من المحتوم أن يشمله الإمام (عليه السلام) بمنّه وفضله وكرمه، فيودع فيه الأسرار، ويمدّه بالعلوم، ويمنحه قدرة خارقة منه، يطلّع فيها مثلا على بعض الغيب ككونه يعلم ماذا يدور في ذهن السائل قبل السؤال أو معرفته بموعد ارتحاله من الدنيا أو تنبؤه بالحروب الأخيرة التي وقعت بعده وهو ما سمعته منه بنفسي ولاحظه كثيرون آخرون. وفي هذا كلام يطول، ولكن نعود إلى أصل الموضوع.. والقصة التي وعدت ببيانها.
لقد نشأت في بيئة لم تكن فحسب بعيدة عن المناخ الشيرازي – إن جاز التعبير – بل كانت بيئة معادية لكل ما يمت إليه بصلة! ولم يكن عداء تلك البيئة في حدود المعقول، ولا في مستوى المتوسط، بل كان عداء في أقصى مداه! لقد كان عداء مستحكما مستمرا متأصلا في النفوس المريضة والأذهان السقيمة! وقد لقننا أصحابها منذ نعومة الأظفار كيف نكره رجلا اسمه السيد الشيرازي!
في وسط تلك البيئة نشأت، ولا أقصد البيئة الأسرية، وإن كانت أسرتنا - بالمعنى الأصغر لا الأكبر - قد وضعت حاجزا نفسيا بين أفرادها وبينه رضوان الله تعالى عليه؛ لكن هذا الحاجز كان نتاجا من تلك البيئة التي طغت علينا جميعا، وهي بيئة كان صانعها حزب سياسي ديني معروف، استطاع أن يجعل من إحدى المساجد الشهيرة في الكويت رأس حربة ضد هذا المرجع المظلوم الذي تعاظمت شعبيته في البلاد والتف حوله أهلها مما كان سببا لأن يخسر ذلك الحزب نفوذه وانتشاره، فأبى إلا أن يوقع الناس في فتنة عمياء لم تبقِ ولم تذر!
في ذلك المسجد كنت أتلقى الدروس، وفيه منذ الصبى كنت أرفع الأذان وأرتل القرآن وأقرأ الأدعية للمصلين، ومنه كنت أمارس نشاطاتي الدينية، وفيه كنت ألتقي بمن خدعوني بمظهرهم الإيماني وباطنهم الدنيوي! فملأوا عقلي عداء للمرجع المظلوم، ومع أنني كنت أوافقهم، إلا أن قلبي كان ينقبض أحيانا انقباضا يبعث في نفسي الشك منهم، وكنت أقول: هل يُعقل أن لا تكون لهؤلاء "المتدينين" همة سوى إسقاط عالم دين؟! لنفترض أنه كان كما يرمونه به من سوء، ولكن هل من المعقول أن يصل الأمر إلى درجة التفريق بين الزوج وزوجته لأن هذه تقلّده وذاك لا؟! هل يصح لمن يدّعون أنهم يحملون رسالة الإسلام أن يحطموا حياة الأسر ويخربوا بيوت الناس من أجل إسقاط رجل لم نرَ منه إلا خيرا؟!
كانت هذه الحال صعبة عليّ، أعني أن أرى أناسا قد وقعوا في فخّ هذا الحزب وتدّمرت حياتهم الاجتماعية بسبب هذه الفتنة، ولكني مع ذلك لم أكن أجرؤ أن أعترض أو أن أبدي شيئا من ذلك، فقد علّمنا ذلك الحزب أن نكون عبيدا مطيعين، لا حق لنا في نقاش "القيادات"! كنا صبية صغارا لا نعرف أين يُسار بنا سوى أن أسرنا سلّمتنا إلى هؤلاء لكي "يحفظونا" من الانحراف.. فإذا بهم ينحرفون بنا إلى منعطفات أشد خطورة وأكثر وعورة!
لم أكن أتوقع وأنا في بداية مرحلة الشباب والحياة الدينية أن أرى هذه النماذج المأسوية في الوسط الديني من التطاحن بين من كنت أظنهم من "العلماء" فكنت أستهجنها وأنفر منها كثيرا. والشيء بالشيء يُذكر؛ فالذين دخلوا في عمق محيط المعممين والحوزات الدينية يدركون جيدا ماذا أقول فهناك ردّة فعل كبيرة من تصرفات البعض الطالح، والصورة من الداخل أكثر سلبية من الخارج، وهي قاتمة إلى حد ما إلا من بضع شموس مضيئة مازالت تعطينا الأمل وتبعث فينا الأمان فنشعر بأن "الحوزات مازالت بخير".. هؤلاء هم المعممون المخلصون، والعلماء الأتقياء الذين يستحقون حقا هذا التاج الإسلامي على رؤوسهم. ولكن هؤلاء معدودون على الأصابع، يندر وجودهم فهم كالكحل في العين والملح في الزاد.
لقد كنت لا أستطيع تحمّل أن أشاهد بعض المعممين يقدحون في هذا المرجع بأسلوب لا ينم عن أخلاق العلماء إطلاقا، بل هو أقرب إلى أسلوب "أبناء الشوارع"! وكنت أتساءل في قرارة نفسي عن سبب كل هذه الضجة واللجة، وعن مسوغاتها الشرعية إن وجدت، فسألت بعضا هنا وبعضا هناك فلم أجد ما يمكن القبول به وما يستأهل كل هذا العداء والحقد!
لم أجد في السيد الشيرازي انحرافا عقيديا واحدا، ولا مثلبة أخلاقية يتيمة، ولا خللا فكريا شاذا، ولا أي شيء من هذا القبيل، فلماذا إذن يقعون فيه ويغتابونه بهذا الشحن والتحريض العدائي المستمر؟!
وأكثر ما أثار سخطي في تلك الفترة هو محاولة بعضهم تبرير هذا الموقف العدائي بالقول أن السيد الشيرازي يدّعي أنه الإمام المهدي المنتظر عليه السلام!! ولمّا أن سألناهم عن بيّنة ذلك قالوا: "اقرؤوا كتبه وسترون أنه يكتب اسمه على هذا النحو: محمد المهدي الحسيني الشيرازي!! فهو يقول أنه "محمد المهدي"! والحق أني لم أكن أتصوّر أن يبلغ سخف هؤلاء واستخفافهم بعقول البشر هذه الدرجة، فهل لأن السيد الشيرازي وسائر عائلته والقريبون منهم معتادون على استخدام (ألف لام التحلية) حسب ما تقتضيه الفصاحة العربية يكونون قد أجرموا ويصح اتهامهم ورميهم بالباطل والزور؟! وما قول هؤلاء في استخدام علمائنا الأوائل هذه القاعدة؟ هل يجرءون على قول أن السيد الشريف المرتضى لأنه كان يُطلَق عليه "المرتضى" يكون قد ادعى أنه أمير المؤمنين الإمام المرتضى عليه السلام؟! إن هذه هي لغة العرب، ولها شواهد كثيرة حتى في زماننا الحاضر، عند العلماء والوجهاء والأمراء وغيرهم كدلالة على التعظيم والتقدير، والسيد إنما أضاف (ألف لام التحلية) إلى والده قدس سره من هذا الباب، فكيف لم يتفكّر هؤلاء في هذا؟! وما بالهم على الأقل لم يحملوا أخاهم المؤمن على سبعين محملا كما أوصانا أهل البيت (عليهم السلام) فاعتبروا أن "محمد المهدي الحسيني الشيرازي" تمثّل إعلانا بالمهدوية والعياذ بالله؟! وهل هذا إلا من قبيل الاتهام بالبهتان؟! وألا يستحون من الله جل وعلا على هذا التصرف الشائن؟!
على كل حال؛ عندما بلغت هذه الاتهامات الإمام المظلوم الراحل (قدس سره) ووصل إلى مسامعه أنهم قد روّجوا بين الناس أنه يدّعي المهدوية قام بحذف اسم والده أساسا من مؤلفاته وبات يكتب "محمد الحسيني الشيرازي"! والأعجب أنه (رضوان الله تعالى عليه) سامحهم على ما اقترفوه من ذنب بحقه، ولكن هؤلاء ما استحوا ولا تابوا إلى الله تعالى بل استمروا في إطلاق ونشر هذه الشائعة لتحطيم سمعة هذا الإمام العظيم، ولما بان سوء صنيعهم وامتعض الناس من قولهم حيث تبيّن لهم كذبهم وافتراؤهم، أرادوا أن يحفظوا ماء وجوههم فقالوا: "لم نقصد أنه يدّعي المهدوية ولكن قصدنا أنه يزعم أنه قد تتلمذ على يدي الإمام المهدي عليه السلام"!! فانظروا إلى قباحتهم ووقاحتهم! وحقا صدق سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال: "إنْ لم تستح فاصنع ما شئت".
يوما بعد يوم كنت أتدبّر في أمر هؤلاء القوم فلا تطيب لي نفس للاستمرار في مخالطتهم، فما هم بمؤمنين ولو كانوا كذلك لما ارتكبوا ما ارتكبوه ضد هذا السيد التقي المجاهد الذي لم يفعل لهم شيئا سوى أنه حلّ بهذه الديار وقاد موجة إصلاحية شيعية واسعة النطاق بينما هم كانوا غارقين في نهبهم للحقوق الشرعية ونشر مبادئ التحزّب والفكر المنحرف المضل!
غير أنهم حيث كانوا يعتمدون على الفتاوى المضادة التي صدرت حسدا وبغضا ضد هذا السيد الجليل فإنهم قد أكسبوا اتهاماتهم بعض الشرعية، وآنذاك لم نكن نستطيع أن نميّز الحق من الباطل مع الأسف، فالذين أصدروا الفتاوى كانوا يطرحون أنفسهم في مستوى المراجع وكان يصعب علينا أن نشكك في صحة ما ارتكبوه، فهذا "مرجع" ينسف "مرجعا" آخر؛ فأيهما على الحق وأيهما على الباطل؟! ولذا فإنني وكثيرين من أمثالي رضخوا لهذه الموجة الظالمة لما وقع في نفوسهم من الشك والحيرة التي أبعدتنا عن العلماء وأوساط المتدينين. وإني وإنْ لم أكن من أعدائه أو المحاربين له قدس الله نفسه، إلا أنني كنت قد أخذت مسافة بعيدة عنه، فتحاشيت أن أرتبط به بأي شكل، رجوعا وتقليدا، أو عملا واقتداء. فبقيت على هذه الحال من الجفاء والمقاطعة سنوات، كنت أظن فيها أن هذا هو الصواب، ولكن نفسي لم تكن تتمكن من إخفاء إعجابها بالإمام الشيرازي في أحيان كثيرة، فكلما وقع في يدي كتاب له، أو شريط، أو بيان، وكلما كنت أسمع عن أخلاقه وسجاياه، كان احترامي له يزداد ويكبر، ولكن الذين شحنوا نفوسنا بغضا ما تركوا لها الفرصة لأن تنفتح على هذا الرجل العملاق.
وفي سنة من السنوات، حيث وقفت على قبائح شائنة لا يمكن أن تصدر من مؤمنين، وكان هؤلاء ممن نعتبرهم أصحاب المُثُل والمبادئ الدينية، فكان الذي وقفت عليه سببا لأن تهتز قناعاتي من الأعماق، فشككت في كل شيء، حتى كاد شكي أن يقع في الدين نفسه لولا رحمة الله تعالى! وليس ذلك بغريب، فإن أمثالي من المغرر بهم وقتذاك كانوا يعتبرون "القيادات" مثلا أعلى، فإذا سقطوا سقط كل ما كان يمثّلونه من قول أو فعل، وهو في مجمله كان يحض على الالتزام بالدين كما لا يخفى.
بعد تلك الهزّة، ابتعدت واعتكفت في منزلي وقاطعت المساجد والحسينيات إلا في أوقات نادرة جدا، إذ بدأت أحس بأن كل هؤلاء المتدينين يكذبون! وأنهم في الظاهر شيء وفي الباطن شيء آخر! وازدادت عندي دائرة الشك والقلق حتى شملت الذين يزعمون أنهم من المراجع والفقهاء الكبار.. "ما الذي يضمن لي أن هؤلاء ليسوا أيضا كذابين مراوغين"؟! هكذا كنت أتساءل في قرارة نفسي بصمت، إذ لم أكن أملك الجرأة إطلاقا على الجهر بهذا التساؤل، لأنه كان يعني مروقا بكل ما لهذه الكلمة من معنى!
أما الآن وبعدما خضت ما خضته من التجارب المريرة فإن عندي الشجاعة الأدبية الكاملة لأن أقول بأن بعض – وليس كل – هؤلاء كانوا فعلا لا يستحقون أن يُنسبوا إلى العلم والفضيلة، بل إن الدين منهم براء، فمنهم المنحرف عقيديا، ومنهم الذي لا تقوى له ولا عدالة ولا حتى ضمير!
والآن قد عرفت جيدا معنى تحذير نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي زلات العلماء"! والآن قد أدركت كيف أن إمامنا المهدي (صلوات الله عليه) سيخرج ليقتص من بعض الذين ادعوا أنهم من العلماء! وإن من الواجب الشرعي عليّ أن أقول في هذا المقام، للناس وللتاريخ، لجميع المؤمنين والمؤمنات، أني اكتشفت أن الإمام الشيرازي (قدس الله نفسه) كان مظلوما ممن أفتوا ضدّه وألّبوا الناس عليه، وأن الذين أفتوا قادهم حسدهم – وهو آفة العلماء كما في الحديث - إلى فعلتهم هذه، وهذا هو مستندهم "الشرعي" الوحيد في إصدارهم لتلك الفتاوى الظالمة التي فرّقت الأمة وزرعت الفتنة بين صفوفها. هذا ما توصّلت إليه بعد بحث مضنٍ ناقشت وراجعت فيه كثيرين، حتى تبيّنت لي الحقائق والوقائع كاملة لا لبس فيها.
إنني أعلم أن كثيرين يخشون أن يصرّحوا بهذه الحقيقة، فهم يخشون الناس، ولكن الله أحق أن نخشاه، وليس من الصحيح أن نخفي مساوئ البعض الطالح من أجل أن لا تتلوث سمعة البعض الصالح، فإن هذا الطالح قد أفسد سمعة الصالح لأننا لم نميّزه ولم ننفِ نسبته إلى سلك العلماء. لقد كتبت سابقا عن زمان استغلال العمامة، ونبّهت إخواني المؤمنين بضرورة أن يتفحصوا حال كل من اعتمرها ويتأكدوا من تقواه وعدالته وعلمه قبل أن يتّبعوه ويقبلوا قوله، ولكن لا يجب أن يُفهم كلامي على أنه تشكيك وطعن، بل هو على العكس من ذلك، تنزيه لعلمائنا الأجلاء المخلصين ممن أساء إليهم بتصرفاته وسوء صنائعه.
يجب أن لا ننخدع بأي أحد، ولا يمكن تحاشي الانخداع إلا بالوعي والفحص والتدقيق والتحقيق. وهذا ما قمت به عندما عزمت على العودة إلى الوسط الديني والعمل الإسلامي بعد انقطاع كاد أن يكون نهائيا لما رأيته بأم العين من مساوئ وانحرافات ودجل وكذب وغيبة ونميمة!
قررت في ذلك الحين أن لا أسلّم زمام أمري لأحد، وأن أبحث بمفردي عن الحقيقة وعن إجابة سؤال: "من هو العالم والفقيه الذي يستحق أن نتبعه في هذا الزمن"؟! فجرّدت نفسي عن كل العواطف، وبحثت مدة طويلة عن الأصلح والأعلم والأتقى والأعدل، وعن الذي لا تشوبه شائبة، وعن الذي يملك مشروعا يرتقي بالأمة ويبعث فيها الروح من جديد.
وجدت صالحين، ووجدت أتقياء، ووجدت من يملك مشروعا لا بأس به أيضا، ولكني لم أجد من تجتمع فيه تلك الشروط وتتوافر فيه كل تلك العناصر سوى رجل واحد هو: الإمام آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي.
كانت التجربة صعبة ومريرة بعض الشيء، ولكني أسجد لله (جل وعلا) شكرا على أنها أفضت إلى خير، وأوصلتني إلى حيث أجد نفسي وديني ودنياي وآخرتي. ولن أتحدّث هنا عن مسألة "الأعلمية" فهذه مفروغ منها، ولكني سأتحدث عن جوانب وعوامل أخرى قادتني إلى اتباع هذا المرجع العظيم في وقت كانت تنعدم في نفسي الثقة بمن يدّعي العلم، سيّما مع تنامي المستوى العلمي والإدراكي لديّ حيث اكتشفت أن كثيرا من هؤلاء المدّعين ليسوا بشيء لا في العلم ولا في الاجتهاد! فكنت في أحيان كثيرة لا أتمكن من حبس ضحكة على ما يدّعونه من "أعملية" ليس لها واقع!
إن الأسباب والعوامل التي جعلتني أتبع ذلك السيد الجليل (أعلى الله درجاته) تتلخص في الكلمة العظيمة التي قالها سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ قال: "لا تجلسوا عند كل عالم يدعوكم، إلا عالم يدعوكم من الخمس إلى الخمس: من الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرغبة إلى الزهد". (الاختصاص للمفيد رضوان الله عليه ص335).
إن نبينا (صلى الله عليه وآله) يدعونا في هذه الوصية العظيمة لأن لا ننخدع بكل عالم يطرح نفسه، فهناك علماء فاسدون، فلا يجب أن نجالسهم ونستمع إلى أحاديثهم ونتبعهم بشكل أعمى كما يفعل كثير من قومنا مع الأسف. كلا.. ليس هناك اتباع لأحد إلا للذي ينهانا عن خمسة أشياء، ويأمرنا بخمسة أشياء، كما قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندما وقفت على هذا الحديث الشريف، تفتحت أمامي الآفاق، ونظرت أكثر فإذا بكل هذه الصفات تنطبق على السيد المظلوم (قدس الله سره) تماما. وإليكم البيان:
(من الشك إلى اليقين)
لقد كنت كما أوضحت في حالة شك بسبب التصرفات المخزية التي ارتكبها البعض باسم الدين، فأوجب ذلك لي نفورا وابتعادا. ولكن الإمام الشيرازي أخرجني من هذه الحالة، وجعلني أتيقن من أن هذه الأرض لا تخلو من فقهاء يستحقون حقا أن يكونوا خلفاء للحجة المنتظر (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) بإخلاصهم وتفانيهم وجهادهم. ولا أنسى كيف قد وقعت الحيرة عندي في مسائل عقيدية ودينية عديدة، فقد شككونا في كل شيء تقريبا، في نورانية الأئمة (عليهم السلام) وعصمتهم ومقاماتهم الملكوتية، وفي كثير من حقائق التاريخ خاصة في مجال مظلوميتهم ومظلومية الزهراء (سلام الله عليها) تحديدا، وفي ألف شيء وشيء حتى فرّغوا الدين عن محتواه وجعلوه دينا مائعا هو إلى الإطار والشكل أقرب من الجوهر والمضمون! ولم نكن آنذاك قد وصلنا إلى مرحلة علمية نستطيع فيها أن نقطع بأنفسنا في حقيقة هذه المسائل، وهنا لجأنا إلى السيد الشيرازي ووجدنا عنده الإجابات الشافية الوافية التي أعادتنا إلى حظيرة اليقين وأبعدت عن عقولنا ونفوسنا الشك، فلله درّه من فقيه علّمنا مبادئ الولاء المطلق لمحمد وآل محمد (عليهم السلام) ولقننا ثوابت الدين كما يرتضي الله عز وجل، وأزاح عنا وهم التصوف والفلسفة والعرفان وسائر الانحرافات العقائدية الأخرى، كما أزاح عنا مرض الانهزام أمام المخالفين وعلّمنا كيف ندافع وننصر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وكيف ننتقم من أعدائهم.
لقد نقلنا حقا من الشك في الدين، إلى اليقين في الدين، حتى في التحديات الحضارية، أثبت لنا أن الدين الإسلامي هو دين التقدم والحضارة، وأنه هو صاحب العلاجات الناجحة لكل مشاكل العصر، وأن فيه ما ليس في الليبرالية وغيرها من مناهج مستوردة من قيم ورقي وسعادة للبشر، وكان هذا في وقت يفتقد فيه سائر المتحدثون باسم الإسلام - سواه - مشروعا حضاريا متكاملا يقدّم الحلول الحقيقية ويرتقي إلى مستوى التحديات.
إضافة تعليق جديد