المفكر الشيعي أحمد الكاتب يدعو إلى سحب صلاحية استلام الأخماس من المراجع
أحمد الكاتب
تقوم كل الحكومات عادة بجباية الضرائب من المواطنين وصرفها على مصالح الدولة العامة ، وقد أمر الله عز وجل رسول الكريم محمد (ص) ان يأخذ الزكوات من المسلمين ويصرفها على مصالحهم العامة ويسد حاجة الفقراء والمساكين منهم ، وقد دأب أئمة الحق وخاصة من أهل بيت الرسول (ع) على جباية الخمس والزكاة من المسلمين وصرفها في مواردها المشروعة بكل عدالة ومساواة ، بينما كان الحكام الطغاة والظلمة ينهبون حزينة الدولة الاسلامية ويعتبرونها ملكا خاصا لهم ، فيتصرفون بها كيفما يشاءون وبما يضمن تدعيم سلطتهم الديكتاتورية دون ان يلتزموا بأداء أي حق تجاه المواطنين .
وهذا ما دفع كثيرا من الشعوب الاسلامية وغيرها الى تنظيم العلاقة المالية بينها وبين الحكومات وفصلها عن أشخاص الحكام واقامة أجهزة ضريبية وحسابات خاصة بعيدة عن هوية الحاكم ، وتحديد قدرته على التلاعب بالأموال العامة ، ولكن العلاقة المالية بين الشيعة الامامية الاثني عشرية وبين مراجع التقليد ، الذين دأب المؤمنون على تقديم أخماسهم وزكوا تهم إليهم ، لا تزال مضطربة ومرتبطة من طرف واحد بشخص المرجع ، وبالرغم من المستوى الرفيع الذي وصلت العلاقة المالية بين المواطنين والدول في أغلب بلاد العالم المتحضر فان الوضع المالي للمرجعية الدينية الشيعية اليوم ينطوي ، مع الأسف الشديد ، على فوضى وتخلف وبدائية وسوء إدارة واختلاس واستغلال وهدر للملايين من الحقوق الشرعية ، بما لا يليق مع حجم الطائفة وسمو مبادئها الاسلامية . واكتشف الشيعة بعد وفاة بعض المراجع الكبار انهم كانوا يذهبون الى ملكية الخمس ملكية خاصة ولذلك ورثوا الملايين الطائلة الى أبنائهم وأحفادهم.
وبناء على ذلك فقد ارتفعت منذ فترة الدعوة الى إصلاح الوضع المالي للمرجعية وبناء أجهزة منظمة عامة غير مرتبطة بشخص ، تستوعب الأخماس والزكوات وغيرها من الحقوق الشرعية ، وتصرفها في مواردها العامة ، وتضمن لدافعي الخمس والزكاة بالخصوص حقهم في الحياة الكريمة .
ولكن هذه الدعوة عجزت عن تحقيق اية خطوة إيجابية نحو الإصلاح حتى الآن ، وذلك بسبب انعدام الأرضية الصلبة والرؤية الواضحة وانتقال المرجعية من واحد الى آخر.
وفي الحقيقة لا يمكننا حل المشكلة واصلاح الأمور المالية الا بعد الإحاطة بجذور الأزمة واكتشاف العوامل التي أدت الى اضطراب الموقف من الخمس والزكاة وتدهور طريقة جبايتهما وتوزيعها بالصورة الصحيحة ، وعلاقة ذلك بالفكر السياسي الذي هيمن على الشيعة خلال القرون الماضية. فمن المعروف ان (الشيعة الامامية الاثني عشرية) وقعوا فيما يسمى بالحيرة بعد وفاة الامام الحسن العسكري وعدم وجود إمام بعده ، منذ اكثر من الف ومائة وخمسين عاما وتحطم فكرهم السياسي ، وسيطرت عليهم ، فيما مضى ، نظرية سلبية جدا هي نظرية (التقية والانتظار) التي كانت تحرم اقامة الدولة لغير الامام المعصوم الغائب (المهدي المنتظر) وتعطل القيام بواجبات الدولة الاسلامية ومنها جباية الخمس والزكاة وما الى ذلك.
ومن هنا فقد احتار الفقهاء الأوائل في حكم الخمس ولم يعرفوا لمن يسلموه ، وقال الشيخ المفيد في (المقنعة ص 46): قد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك عند الغيبة ، وذهب كل فريق منهم الى مقال … وانما اختلف أصحابنا في هذا الباب لعدم ما يلجأ اليه من صريح الألفاظ.
القول بإباحة الخمس
وهو ما أدى بعدد كبير من العلماء السابقين الى القول بإسقاط الخمس وإباحته في عصر الغيبة ، كالشيخ الطوسي الذي ذهب في (النهاية ص 265) الى تحليل الخمس للشيعة في الأمور التي لا بد لهم منها من المناكح والمتاجر والمساكن. والشيخ (سلار) والقاضي ابن براج والشيخ محمد بن إدريس الحلي والمحقق الحلي والشيخ يحيى بن سعيد الحلي والعلامة الحلي والشهيد الأول والشهيد الثاني والمقدس الأردبيلي والشيخ محمد حسن فيض الكاشاني والسيد علي الطباطبائي وابنه السيد محمد علي ، والسيد محمد باقر السبزواري الذين قالوا ان الأئمة قد أحلوا الخمس في زمان الغيبة كرما وفضلا للشيعة .
كما أدى الغموض الذي أحاط بالخمس وعدم وجود نص واضح حوله في عصر الغيبة بعدد آخر من العلماء الى القول بدفن الخمس او إلقائه في البحر ، إيمانا منهم بأن الأرض ستخرج كنوزها عند ظهور المهدي ، وقد أشار الى هذه الأقوال كل من الشيخ المفيد في (المقنعة) والقاضي ابن براج في (المهذب) والمحقق الحلي في (شرائع الاسلام) والشهيد الأول في (الدروس الشرعية).
وهكذا أدى الغموض المحيط بالخمس بعدد آخر من العلماء الى القول بعزل الخمس وحفظه والوصية به الى يوم ظهور الامام المهدي وتسلميه اليه ، وقد اختار هذا الرأي كل من الشيخ المفيد في (المقنعة) والشيخ الطوسي في (المبسوط ص 146) والقاضي ابن براج الذي رجح في (المهذب ج1 ص 181) هذا الرأي وقال عنه : " انه أحوط وأقوى في براءة الذمة " والشيخ محمد بن إدريس الحلي (في القرن السادس الهجري) الذي قال في (السرائر ص 116) : الاولى عندي الوصية به والوديعة.. وهذا الذي أخبرناه وحققناه وأفتينا به ، وهو الذي يقتضيه الدين أصول المذهب وأدلة العقول وأدلة الفقه وأدلة الاحتياط. والشهيد الأول الذي اعتبر في (البيان ص 221) القول بحفظ نصيب الامام الى حين ظهوره من أصح الأقوال ، والمحقق الشيخ علي عبد العالي الكركي الذي أفتى في (جامع المقاصد في شرح القواعد ص 65) بالتخيير في نصيب الامام بين الحفظ بالوصية الى ان يسلم اليه عند ظهوره ، وبين قسمة حقه على الأصناف .
من يتولى توزيع الخمس؟
ان كل تلك الأقوال اللامعقولة والغريبة كانت بسبب اضطراب الفكر السياسي لدى أولئك العلماء وسيطرة نظرية التقية والانتظار وتحريم اقامة الدولة الاسلامية او القيام بأي دور من أدوارها في (عصر الغيبة) وقد تخلى الفقهاء المتأخرون عن تلك الأقوال عندما تطور الفكر السياسي الشيعي قليلا بعد ذلك ، وقالوا بوجوب توزيع الخمس على المستحقين ، ولكنهم لم يكونوا يعرفون هوية المتولي لذلك ، وقد قال الشيخ الطوسي بصراحة: بأن المتولي لقبض الخمس وتفريقه ليس بظاهر ، لانعدام النص المعين .(المبسوط ج 1 ص 264) و (النهاية ص 265). و لذا أوكل السيد ابن حمزة مسألة توزيعه الى صاحب المال. وأجاز المقدس الأردبيلي في (مجمع الفائدة والبرهان ج4 ص 350) للمالك الصرف بنفسه من غير إذن الحاكم ، واعتبر الإيصال الى الفقيه العادل المأمون من باب الأولى.
وكان أول من استحسن القيام بتسليم الخمس الى العلماء هو (السيد ابن حمزة ) المعاصر للقرن السادس الهجري ، الذي اعتبر في (الوسيلة الى نيل الفضيلة ص 682): تسليم الأموال الى العلماء أفضل من قيام صاحب الخمس بتوزيعه بنفسه ، خاصة اذا لم يكن يحسن القسمة.
وعندما قال بعض العلماء في القرون المتأخرة ، وخاصة في أيام الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، بنظرية (النيابة العامة ) تطورت (المرجعية الدينية) الى درجة قريبة من الإدارة العامة ، وأخذ العلماء يلزمون تسليم الخمس إليهم ويوجبون ذلك باعتبارهم شبه حكام عليهم ، و (نواب عامين عن الامام المهدي) .. الى ان قاموا بتشكيل الحكومة الاسلامية في ايران ، وراحوا يجبون الضرائب المختلفة على أساس نظرية (ولاية الفقيه).
ومن الطبيعي ان ينحصر الحق في جباية الضرائب الاسلامية بالدولة الشرعية التي تقوم بواجباتها تجاه المواطنين ، وهذا ما لا نقاش فيه ، ولكن النقاش يدور الآن حول وجوب تسليم الأموال الى دولة لا تلتزم بأداء أي واجب تجاه مواطنيها ، او تجاه المؤمنين خارج حدودها ، او تسليمها الى (مراجع ) لا يقومون بواجباتهم تجاه الأمة او دافعي الأخماس والزكوات ، مع وجود الشك في ذهب الأموال الشرعية الى مصارفها المقررة واحتمال تعرضها للنهب والاختلاس والهدر ، كما يحصل الآن في الطريقة (المرجعية) القديمة التي يتم فيها جمع الأموال بدون حسابات دقيقة او إعلان لحجم الصادر والوارد.
ان هذا الأمر لا يمكن الإجابة عليه بدقة الا بعد بناء الفكر السياسي الشيعي الجديد ، وحل مشكلة السلطة والسيادة في عصر الحيرة والغيبة.. هل هي بيد الناس؟ أم بيد الفقهاء المراجع؟ وهل هم حقا نواب الامام المهدي العامون؟ وهل يوجد أساسا إمام غائب باسم الامام محمد بن الحسن العسكري؟ وبالتالي هل لديهم ولاية على الناس في جباية الأخماس والزكوات وغيرها من الأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؟ أم لا؟
وفي الحقيقة.. ان العلماء يختلفون في الإجابة على هذا السؤال.. وهم اقرب الى افتراض (النيابة العامة للفقهاء عن الامام المهدي) منهم الى إثباتها بالأدلة القاطعة والأحاديث الصحيحة، إذ لا توجد الا بعض الروايات الغامضة وغير المسندة والمشكوك في صحتها ، والتي أقصى ما تأمر به: الرجوع الى رواة أحاديث أهل البيت (ع) في القضاء او في المسائل الحادثة والاستفسار منهم عن الحكم الشرعي ، ولذلك لم يفهم العلماء السابقون والمحققون اللاحقون منها مفهوم النيابة العامة او الولاية ، وقد نفى السيد الخوئي دلالتها على الولاية حتى في القضاء فضلا عن إثبات صدورها عن أهل البيت (ع).
واذا لم تثبت ولاية الفقيه على الناس فان ذلك يفتح الطريق أمام نظرية (الشورى) والقول بولاية الناس على أنفسهم ، وهو ما يعني ، عند القول بوجوب الخمس والزكاة في ظل غياب الدولة الشرعية: جواز إخراج الأغنياء لأخماسهم وزكوا تهم بأنفسهم ، كما كان يقول العلماء السابقون وتخييرهم بإعطائها للفقراء لكي يقوموا بتوزيعها على الفقراء والمساكين ، وانفاقها في المصالح الاسلامية العامة ، او إعطائها للأمناء من المؤمنين او القيام شخصيا بتوزيعها على المستحقين.
ويتأكد الخيار الأخير خصوصا اذا تعرضت الأموال الشرعية للمخاطر عند تداولها عبر سلسلة طويلة من الأيادي ، او اذا كانت المصلحة تقضي بانصراف العلماء للبحث والدراسة والتحقيق ، بدلا من هدر أوقاتهم الثمينة بجباية الأموال وتوزيعها ، في عصر التخصص وتقاسم المهمات .
وبناء على ذلك يمكن التفكير بوضع الأموال في صناديق خاصة وتشكيل جمعيات او لجان من أصحاب الأموال او المؤمنين الأمناء لتوزيعها على المشاريع الخيرية كالمدارس والمستشفيات ووسائل الإعلام الملتزمة وما شابه.. وعمل حسابات دقيقة بالوارد والصادر واعلان ذلك سنويا ، كما تفعل الجمعيات الخيرية في كل مكان.
ولا يوجد أي مانع شرعي من ذ لك ولا يحتاج الى أي إذن خاص من (مرجع التقليد) إذ لا يوجد أي نص يوجب تسليم الأموال اليه ، وقد قال مشايخ الطائفة كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي بعدم وجود ما يلجأ اليه في هذا الباب من صريح الألفاظ ، وان المتولي لقبض الخمس وتفريقه ليس بظاهر ، لانعدام النص المعين.
وقد نفى السيد محسن الحكيم في (مستمسك العروة الوثقى ج9 ص 584) أية حاجة الى مراجعة الحاكم الشرعي (المرجع الديني) في صرف المالك حصة الامام من الخمس في جهة معينة اذا أحرز رضا الامام (ع).
وفي الحقيقة ، لقد حاول بعض الفقهاء المراجع ان يقوموا بتنظيم عملية الجباية والتوزيع للأموال الشرعية ويضعوا حدا لتلاعب الحواشي والوكلاء والأولاد ، ولكنهم تراجعوا تحت ضغط أولئك المنتفعين والمستفيدين من حالة الفوضى وتهديدهم بالرجوع عن تقليد ذلك المرجع ، والدعوة الى مرجع آخر.
ولما كان وضع المرجعية يعيش حالة من التنافس السلبي المحموم والصراع الشديد للفوز بالمرجعية العليا والحسد بين العلماء فانه لم ولن يسمح بإجراء أي إصلاح في الجهاز المرجعي او تنظيم النشاطات المالية في هذه الأيام والظروف.
ومن هنا فان الطريق الوحيد الممكن للإصلاح يكمن اليوم في الفصل بين (المرجعية الدينية) او بالأحرى بين هوية المرجع الشخصية ، وبين الإشراف على عملية الجباية والتوزيع ، وقيام ثلة من المؤمنين في كل منطقة بتشكيل مؤسسة او جمعية خيرية ، ووضع لائحة في الأمور المهمة التي تتطلب الرعاية والاهتمام ، ومن ضمنها تخصيص مبالغ معينة لطلبة العلوم الدينية وأئمة المساجد والخطباء والمبلغين ، كما يمكن للأحزاب الاسلامية التي تتصدى للشؤون العامة ان تقوم بذلك بشرط ان تقدم منشورا بحاسباتها المالية كل عام .
ومن المؤمل ان تقوم هذه الخطوة بتغطية كل المرافق الاجتماعية والتبليغية وتوزيع الأموال حسب حاجة كل منطقة وان تحول دون ضياع الاموال العامة بعد وفاة المرجع وتمنع ورثته المقربين من الاستيلاء عليها ، كما يمكن ان تشجع المؤمنين على العطاء والإنفاق في سبيل الله ؛ حيث تضمن لهم الثقة ورد الجميل والمساعدة والعون في حالات العوز والحاجة ، وتقوم بكفالتهم ماليا وتؤمنهم اجتماعيا ، وهو عين ما تفعله الدول الحديثة وما أمر به الاسلام من أخذ زكوات الناس في مقابل تأمين الضمان الاجتماعي لهم.
ومن المعروف ان الرسول الأعظم (ص) قد سلب حق الطاعة من إمام لا يقوم بأداء واجباته تجاه الأمة.
واذا كانت هناك عقبات تعيق (المرجعية ) اليوم عن القيام بالإصلاح الإداري والمالي وتطوير نفسها وبناء مؤسساتها وأجهزتها الخاصة فان على المؤمنين ان يبادروا الى ذلك ، ولا يكتفوا بتقديم الاقتراحات وتبادل الشكاوى ، كما بادر كثير من المؤمنين الى اختراق حجاب التخلف وقاموا بخطوات ثورية كثيرة كتأسيس الدول والحكومات ، في وقت كان علماء العصر يحرمون ذلك تبعا لنظرية (التقية والانتظار) ثم لحقهم العلماء و أفتوا بعد حين بجواز ذلك وشرعيته عندما قالوا بنظرية (ولاية الفقيه).
ولولا تلك المبادرات الثورية لظل الشيعة حتى اليوم يعانون من تبعات الأفكار السلبية الخطيرة التي أدت بهم الى الحيرة والضياع قرونا من الزمن وكبلتهم بسلاسل الانتظار و ألقت بهم خارج التاريخ ، وتسببت في سقوطهم تحت براثن الأنظمة الديكتاتورية الظالمة..
وما أحوجنا اليوم الى بناء عقيدتنا السياسية على قاعدة الحرية والشورى ومشاركة الامة في تحمل المسؤوليات العامة، ومن ضمنها تنظيم عملية الجباية للأخماس والزكوات وتوزيعها بصورة عادلة.
نشر :
إضافة تعليق جديد