ما بعد السيستاني وخامنئي..
كتب
الدكتور عباس كاظم وباربارا سلافن، وهما باحثان لدى المجلس الأطلسي في
واشنطن، دراسةً جيدةً بعنوان: “ما بعد السيستاني والخامنئي.. خلافات وشيكة
ستُشكّل الشرق الأوسط”، ومع أهميّة الدراسة إلا أنني أخذتُ عليها شيئاً من
التعميم في بعض النقاط، أحببت أن أُشير إلى بعضها، في مقالٍ موجزٍ لعلَّ
الفكرة تكون أكثر إيضاحاً وإفادةً.
ففيما يتعلّق بالجزء الخاص بمرجعية العراق الممثلة في آية الله السيستاني، فلا شكّ أن له مكانةً كبيرةً في مجريات الأحداث الدينية والسياسية بالعراق، بل وخارج العراقِ فيما يخصُّ مجملَ شؤون الجماعة الشيعية.
لكن المرجح أن الإيرانيين يتهيأون لما بعد رحيل آية الله السيستاني، والتعامل ُالإيراني مع الفراغ الذي ستتركه وفاة السيستاني سيتحددُ بناءً على وضعية خامنئي وقتئذ، إذا كان على قيد الحياة، يختلف عما إذا كان قد مات أولاً، بالإضافة إلى تركيز إيران على ملء الفراغ العراقي بالقوة الصلبة الممثلة في الميليشيات أكثر من الولوج إلى داخل الحوزة والسيطرة عليها، وإن كانت تسعى لذلك، لكن وبعد وفاة محمود الشاهروردي فقدت إيران ورقةً قويةً كان يمكنُ أن تنافس بها في الساحة النجفية.
وإذا أردنا أن ندرك محددات الاستراتيجية الإيرانية في العراق، فهي تقوم على بعدين متوازيين، الأول هو التغلغلُ حوزويًا، فيما يُشبه التغلغلَ الناعم عبر رجال الدين الموالين، وإقناع طلاب الحوزة بالقراءة الولائية. والثاني هو التغلغلُ عبر تخليق ميليشيات مسلحة تفرض سياسة الأمر الواقع، لدرجة أن ثمةَ كتائب لحزب الله رفضت الانسحاب من جنوب الأنبار منذ فترة، رغم مطالبة رئيس الوزراء بانسحابها.
وهذه القوة الخشنة تجاوزت مرجعية السيستاني نفسه حينما رفضت الاندماج الكامل والولاء التام للدولة العراقية والجيش العراقي، وقد طالب السيستاني مرارًا وتكرارًا بحصر السلاح بيد الدولة، لدرجة أنّه ألحَّ على هذا المطلب حتى في لقاء الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني به، في مارس 2019م، وهو ما لم يتمّ حتى الآن.
فالأدوات الإيرانية تنسفُ مرجعيةَ السيستاني بفرض الأمر الواقع السياسي، وربما المذهبيّ على الأرض، مع إبراز قدرٍ كبيرٍ من الاحترام في نفس الوقت، لكن دونَ إعلان الولاء له بالتزام تقليده، وتلك الميليشيات المكوّنةُ للحشد الشعبيّ تُقلّد في أغلبها مرجعية خامنئيّ، بخلاف ما قاله الكاتبان بأنّ الحشد يستمدُّ شرعيته من السيستاني الذي هو الرقيبُ الوحيد المؤثرُ على تصرفات الحشد، فهذه مبالغةٌ وتعميمٌ في غير محلّه. بل إنّ التيار الصدريّ الذي هو أقربُ للنجف والمرجعية العراقية من الحشدِ، لا يُمكن وصفه بهذه الصفات، باعتبار الخلاف التاريخي السياسيّ والفقاهي بين الصدريين والسيستاني!.
ولا يُمكن أن نتجاهل في هذا السياق دورَ إيران في نقل المرجعية بعد وفاة البروجردي إلى النجف للسيد محسن الحكيم، كي تتخلصَ من عبء المراجع. وقبل ذلك غضبت الجماعة العلمائية من الميرزا الشيرازي بسبب رفضه مقابلة ناصر الدين شاه، خشيةً من العواقب الاقتصادية المحتملة إذا غضب الشاه من النجفيين، وفي العموم فإن فقهاء الحوزات في حاجة إلى إيران، ويُسمي المفكرُ اللبناني هاني فحص هذا التموجَ نحو إيران بـ نيل الشرعية، وإيران في حاجةٍ إلى الحوزات المحلية عموماً، والنجف كأكبر وأول حوزة شيعية على وجه الخصوص، بما لها من مكانةٍ وموقعٍ في العرفِ والمخيال الشيعي.
أمّا عن طريقة اختيار المرجع الأعلى بعد وفاة المرجع الحالي في النجف فتاريخياً ليست هناك معايير محددة، كما يحلو للكاتبين أن يدّعيا أنّ هناك معيارين لاختيار المرجع هما: التقوى والأعلمية في الفقه. فيقولان: “لا يوجد إجراء معين لخلافة المرجع في مرجعية النجف، ولا دور للدولة في اختيار خليفة له، ولا حتى ثغرة لتوجيه التوازن لصالح أحد المنافسين على الآخر.. فهناك معياران لاختيار المرجع: التقوى والأعلمية في الفقه”.
ولم يُفرق الكاتبان بين معيار المرجعية عموماً، ومعيار التصدر والانفراد بالمرجعية العليا، فالأعلمية والتقوى من شروط الفقيه المجتهد أيّاً كان موقعه وموضعه، بيدَ أنّها أمورٌ داخلية لا علاقة للظاهر بها، ومن ثمّ فإنّ تحديدها والاتفاق عليها أمرٌ لا يُمكن الاتفاق عليه، ومن ثمّ فلا يُمكن الزعم أنها شروط للتصدّرِ والانفراد، لأنّ التصدرَ لا يكون إلا بعد غربلةٍ واتفاق -لا إجماع- من المؤسسة العلمائية.
والأرجحُ في نظريّ أنّ المرجعية ستكون جماعية بعد وفاة السيستاني حتى يسمح الوقتُ لأحد المراجع بالانفراد بالمرجعية العليا، أو ما يُسمى بالشيوع العام، والمقبولية من المؤمنين، وليس من جماعة الرتبة وأهل الفنّ فقط، كما هو مقرر في مظانه في أبواب الاجتهاد والتقليد، إذ إن الوضع الآن في النجف يُشبه الوضع قبيل وفاة المرجع أبو القاسم الخوئي 1992م، عندما حلّ بعده أبو الأعلى السبزواريّ 1993م، الذي قلّدته الجماهير العريضة من الجماعة الشيعية في العراق وإيران، وغيرهما، بيدَ أنّه مات بعد وفاة الخوئي بشهور. وحتى بعد موت السبزواريّ لا يُمكن القول إنّ السيستاني تفرَّد بالمرجعية، إذ دارت منافسة بين جماعة منهم السيستاني، والصدر، ومرتضى البروجردي، وعلي الغروي، فكانت مرجعيةً جماعيةً إلى حدٍ كبير، فمات هؤلاء وبقي السيستاني معتكفاً حتى سقطَ نظامُ صدام، فتفرد بالمرجعية. ويتداخل في هذا التفرد السياسي بالديني بالمذهبي بالاقتصادي، بصورة لا يُمكن الفصل بينها، أو الترقب بمآلاتها، وهذا كلّه يحتاج إلى وقت للفرز والتجنيب.
ولذا فمن المرجح أن يخلفَ السيستاني جماعةٌ من المراجع على رأسهم الفياض والحكيم وبشير النجفي، ثمّ يحتاج تصدرُ أحدهم أو ولوجُ مرجعٍ من خارج هؤلاء إلى وقتٍ لتبدو فيه معالم المرجعية، وحدود الاشتباك، وموقف الجماعة الشيعية في العواصم الشيعية، وشبكات الوكلاء، ونحو ذلك.
وفي كل الأحوال فإنّ المرجع القادم لا يُمكن أن يخرجَ عن خطّ النجف الموروث، باعتباره مُعبراً عنها، خارجاً منها، وباعتبار نفوذ مراكز القوى الضاغطة السياسية والاقتصادية والعلمية التي تعملُ على عملية الفرز والاختيار، والتي لا يُمكن كبحها. أما قول الكاتبين: إنّ المرجع القادم سيُشكل مستقبل العراق السياسي، أو أنه يمكنه اختيار أسلوب تدريجي ليصل إلى ما يُشبه ولاية الفقيه في إيران، وبعبارتهما: “يضع تحديد الخليفةِ البلادَ بين يدي الخليفة الجديد لتشكيل مستقبله السياسيّ بأيّ طريقةٍ يُحبّ، إذ يستطيع المرجع الجديد أن يختار مواصلة طريق السيستاني في ضبط النفس، والاحتفاظ لنفسه بدور داعم محايد للدولة، بتدخل محدود في حالات الضرورة القصوى، أو يمكنه اختيار أسلوب التدخل التدريجي وصولاً إلى ما يشبه نظام ولاية الفقيه في إيران”.
وهذا تضخيمٌ في غير محله لا يتسقُ مع السياق السياسي والاجتماعي والتاريخي للدولة العراقية ونُخبها، وديموغرافيتها، بل وحوزتها الدينية وموروثها الفقاهي والفتووي، منذ الميرزا حسين خليل، والآخوند الخراساني “المرجع النخبوي”، وقرينه محمد كاظم يزدي “المرجع الشعبوي”، حتى اليوم.
وهذا الفرز وطريقة الاختيار وتتبعها منذ القرون الفائتة في الحوزة وحتى اليوم، يحتاج إلى دراسة جامعةٍ ربما نعمل عليها لاحقاً في المعهد الدولي “رصانة”.
ويمكن القول: إن هذا الفرض -وهو فرض تحول النجف إلى ولاية الفقيه- غير مقبول حتى على مستوى النخب الدينية الإيرانية، فالوليّ الفقيه واحدٌ فقط في طهران، ويسعى لتأسيس حكومة عالمية تدينُ له بالولاء، أما صراعُه مع النجف فليس من أجل تأسيس النجف لوليٍّ فقيهٍ خاصٍّ بها، بل من أجل خضوعِ الفقيه النجفي للوليّ الفقيه في طهران، وفارق كبير بين الأمرين.
ولا يُمكن لمرجعٍ مهما بلغت سطوتهُ وهيمنتهُ عراقيًا وشيعيًا أن يُشكلَ مستقبلَ الدولة السياسي كما يُحبّ، فهو ليس الوليّ الفقيه، وهو ليس الفاعل الوحيد، فثمة فواعل سياسية وحوزوية وإقليمية تحولُ دون ذلك.
والخلاصة في نظري: أنه عادة بعد موت المرجع في النجف لا يتحددُ المرجع الكبير بعده مباشرة، لأنه لا توجد انتخابات أو عمليات اختيار، ولكن يتحددُ بناءً على غربلة وتراكمية، ومن ثمّ يحتاج إلى بضع شهور.
وذلك بخلاف المرشد الأعلى الإيراني الذي يتم اختياره مباشرةً من قبل الدولة، لا من قبل جماعة الرتبة وأهل الفن، فضلًا عن العامّة والمقلدين، ويتولى مهام عمله مباشرةً فور اختياره من مجلس الخبراء، حتى ولو لم يكن حائزًا على شروط الأعلمية والفقاهة كما كان الأمر مع خامنئي، لأنّ أمر المرجعية الإيرانية بات بيدِ الدولة بصورةٍ خالصةٍ بخلاف النجف إلى حدٍ كبير.
محمد السيد الصياد
باحث متخصص في الدراسات الفكرية والأيدولوجية
ففيما يتعلّق بالجزء الخاص بمرجعية العراق الممثلة في آية الله السيستاني، فلا شكّ أن له مكانةً كبيرةً في مجريات الأحداث الدينية والسياسية بالعراق، بل وخارج العراقِ فيما يخصُّ مجملَ شؤون الجماعة الشيعية.
لكن المرجح أن الإيرانيين يتهيأون لما بعد رحيل آية الله السيستاني، والتعامل ُالإيراني مع الفراغ الذي ستتركه وفاة السيستاني سيتحددُ بناءً على وضعية خامنئي وقتئذ، إذا كان على قيد الحياة، يختلف عما إذا كان قد مات أولاً، بالإضافة إلى تركيز إيران على ملء الفراغ العراقي بالقوة الصلبة الممثلة في الميليشيات أكثر من الولوج إلى داخل الحوزة والسيطرة عليها، وإن كانت تسعى لذلك، لكن وبعد وفاة محمود الشاهروردي فقدت إيران ورقةً قويةً كان يمكنُ أن تنافس بها في الساحة النجفية.
وإذا أردنا أن ندرك محددات الاستراتيجية الإيرانية في العراق، فهي تقوم على بعدين متوازيين، الأول هو التغلغلُ حوزويًا، فيما يُشبه التغلغلَ الناعم عبر رجال الدين الموالين، وإقناع طلاب الحوزة بالقراءة الولائية. والثاني هو التغلغلُ عبر تخليق ميليشيات مسلحة تفرض سياسة الأمر الواقع، لدرجة أن ثمةَ كتائب لحزب الله رفضت الانسحاب من جنوب الأنبار منذ فترة، رغم مطالبة رئيس الوزراء بانسحابها.
وهذه القوة الخشنة تجاوزت مرجعية السيستاني نفسه حينما رفضت الاندماج الكامل والولاء التام للدولة العراقية والجيش العراقي، وقد طالب السيستاني مرارًا وتكرارًا بحصر السلاح بيد الدولة، لدرجة أنّه ألحَّ على هذا المطلب حتى في لقاء الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني به، في مارس 2019م، وهو ما لم يتمّ حتى الآن.
فالأدوات الإيرانية تنسفُ مرجعيةَ السيستاني بفرض الأمر الواقع السياسي، وربما المذهبيّ على الأرض، مع إبراز قدرٍ كبيرٍ من الاحترام في نفس الوقت، لكن دونَ إعلان الولاء له بالتزام تقليده، وتلك الميليشيات المكوّنةُ للحشد الشعبيّ تُقلّد في أغلبها مرجعية خامنئيّ، بخلاف ما قاله الكاتبان بأنّ الحشد يستمدُّ شرعيته من السيستاني الذي هو الرقيبُ الوحيد المؤثرُ على تصرفات الحشد، فهذه مبالغةٌ وتعميمٌ في غير محلّه. بل إنّ التيار الصدريّ الذي هو أقربُ للنجف والمرجعية العراقية من الحشدِ، لا يُمكن وصفه بهذه الصفات، باعتبار الخلاف التاريخي السياسيّ والفقاهي بين الصدريين والسيستاني!.
ولا يُمكن أن نتجاهل في هذا السياق دورَ إيران في نقل المرجعية بعد وفاة البروجردي إلى النجف للسيد محسن الحكيم، كي تتخلصَ من عبء المراجع. وقبل ذلك غضبت الجماعة العلمائية من الميرزا الشيرازي بسبب رفضه مقابلة ناصر الدين شاه، خشيةً من العواقب الاقتصادية المحتملة إذا غضب الشاه من النجفيين، وفي العموم فإن فقهاء الحوزات في حاجة إلى إيران، ويُسمي المفكرُ اللبناني هاني فحص هذا التموجَ نحو إيران بـ نيل الشرعية، وإيران في حاجةٍ إلى الحوزات المحلية عموماً، والنجف كأكبر وأول حوزة شيعية على وجه الخصوص، بما لها من مكانةٍ وموقعٍ في العرفِ والمخيال الشيعي.
أمّا عن طريقة اختيار المرجع الأعلى بعد وفاة المرجع الحالي في النجف فتاريخياً ليست هناك معايير محددة، كما يحلو للكاتبين أن يدّعيا أنّ هناك معيارين لاختيار المرجع هما: التقوى والأعلمية في الفقه. فيقولان: “لا يوجد إجراء معين لخلافة المرجع في مرجعية النجف، ولا دور للدولة في اختيار خليفة له، ولا حتى ثغرة لتوجيه التوازن لصالح أحد المنافسين على الآخر.. فهناك معياران لاختيار المرجع: التقوى والأعلمية في الفقه”.
ولم يُفرق الكاتبان بين معيار المرجعية عموماً، ومعيار التصدر والانفراد بالمرجعية العليا، فالأعلمية والتقوى من شروط الفقيه المجتهد أيّاً كان موقعه وموضعه، بيدَ أنّها أمورٌ داخلية لا علاقة للظاهر بها، ومن ثمّ فإنّ تحديدها والاتفاق عليها أمرٌ لا يُمكن الاتفاق عليه، ومن ثمّ فلا يُمكن الزعم أنها شروط للتصدّرِ والانفراد، لأنّ التصدرَ لا يكون إلا بعد غربلةٍ واتفاق -لا إجماع- من المؤسسة العلمائية.
والأرجحُ في نظريّ أنّ المرجعية ستكون جماعية بعد وفاة السيستاني حتى يسمح الوقتُ لأحد المراجع بالانفراد بالمرجعية العليا، أو ما يُسمى بالشيوع العام، والمقبولية من المؤمنين، وليس من جماعة الرتبة وأهل الفنّ فقط، كما هو مقرر في مظانه في أبواب الاجتهاد والتقليد، إذ إن الوضع الآن في النجف يُشبه الوضع قبيل وفاة المرجع أبو القاسم الخوئي 1992م، عندما حلّ بعده أبو الأعلى السبزواريّ 1993م، الذي قلّدته الجماهير العريضة من الجماعة الشيعية في العراق وإيران، وغيرهما، بيدَ أنّه مات بعد وفاة الخوئي بشهور. وحتى بعد موت السبزواريّ لا يُمكن القول إنّ السيستاني تفرَّد بالمرجعية، إذ دارت منافسة بين جماعة منهم السيستاني، والصدر، ومرتضى البروجردي، وعلي الغروي، فكانت مرجعيةً جماعيةً إلى حدٍ كبير، فمات هؤلاء وبقي السيستاني معتكفاً حتى سقطَ نظامُ صدام، فتفرد بالمرجعية. ويتداخل في هذا التفرد السياسي بالديني بالمذهبي بالاقتصادي، بصورة لا يُمكن الفصل بينها، أو الترقب بمآلاتها، وهذا كلّه يحتاج إلى وقت للفرز والتجنيب.
ولذا فمن المرجح أن يخلفَ السيستاني جماعةٌ من المراجع على رأسهم الفياض والحكيم وبشير النجفي، ثمّ يحتاج تصدرُ أحدهم أو ولوجُ مرجعٍ من خارج هؤلاء إلى وقتٍ لتبدو فيه معالم المرجعية، وحدود الاشتباك، وموقف الجماعة الشيعية في العواصم الشيعية، وشبكات الوكلاء، ونحو ذلك.
وفي كل الأحوال فإنّ المرجع القادم لا يُمكن أن يخرجَ عن خطّ النجف الموروث، باعتباره مُعبراً عنها، خارجاً منها، وباعتبار نفوذ مراكز القوى الضاغطة السياسية والاقتصادية والعلمية التي تعملُ على عملية الفرز والاختيار، والتي لا يُمكن كبحها. أما قول الكاتبين: إنّ المرجع القادم سيُشكل مستقبل العراق السياسي، أو أنه يمكنه اختيار أسلوب تدريجي ليصل إلى ما يُشبه ولاية الفقيه في إيران، وبعبارتهما: “يضع تحديد الخليفةِ البلادَ بين يدي الخليفة الجديد لتشكيل مستقبله السياسيّ بأيّ طريقةٍ يُحبّ، إذ يستطيع المرجع الجديد أن يختار مواصلة طريق السيستاني في ضبط النفس، والاحتفاظ لنفسه بدور داعم محايد للدولة، بتدخل محدود في حالات الضرورة القصوى، أو يمكنه اختيار أسلوب التدخل التدريجي وصولاً إلى ما يشبه نظام ولاية الفقيه في إيران”.
وهذا تضخيمٌ في غير محله لا يتسقُ مع السياق السياسي والاجتماعي والتاريخي للدولة العراقية ونُخبها، وديموغرافيتها، بل وحوزتها الدينية وموروثها الفقاهي والفتووي، منذ الميرزا حسين خليل، والآخوند الخراساني “المرجع النخبوي”، وقرينه محمد كاظم يزدي “المرجع الشعبوي”، حتى اليوم.
وهذا الفرز وطريقة الاختيار وتتبعها منذ القرون الفائتة في الحوزة وحتى اليوم، يحتاج إلى دراسة جامعةٍ ربما نعمل عليها لاحقاً في المعهد الدولي “رصانة”.
ويمكن القول: إن هذا الفرض -وهو فرض تحول النجف إلى ولاية الفقيه- غير مقبول حتى على مستوى النخب الدينية الإيرانية، فالوليّ الفقيه واحدٌ فقط في طهران، ويسعى لتأسيس حكومة عالمية تدينُ له بالولاء، أما صراعُه مع النجف فليس من أجل تأسيس النجف لوليٍّ فقيهٍ خاصٍّ بها، بل من أجل خضوعِ الفقيه النجفي للوليّ الفقيه في طهران، وفارق كبير بين الأمرين.
ولا يُمكن لمرجعٍ مهما بلغت سطوتهُ وهيمنتهُ عراقيًا وشيعيًا أن يُشكلَ مستقبلَ الدولة السياسي كما يُحبّ، فهو ليس الوليّ الفقيه، وهو ليس الفاعل الوحيد، فثمة فواعل سياسية وحوزوية وإقليمية تحولُ دون ذلك.
والخلاصة في نظري: أنه عادة بعد موت المرجع في النجف لا يتحددُ المرجع الكبير بعده مباشرة، لأنه لا توجد انتخابات أو عمليات اختيار، ولكن يتحددُ بناءً على غربلة وتراكمية، ومن ثمّ يحتاج إلى بضع شهور.
وذلك بخلاف المرشد الأعلى الإيراني الذي يتم اختياره مباشرةً من قبل الدولة، لا من قبل جماعة الرتبة وأهل الفن، فضلًا عن العامّة والمقلدين، ويتولى مهام عمله مباشرةً فور اختياره من مجلس الخبراء، حتى ولو لم يكن حائزًا على شروط الأعلمية والفقاهة كما كان الأمر مع خامنئي، لأنّ أمر المرجعية الإيرانية بات بيدِ الدولة بصورةٍ خالصةٍ بخلاف النجف إلى حدٍ كبير.
محمد السيد الصياد
باحث متخصص في الدراسات الفكرية والأيدولوجية
نشر :
إضافة تعليق جديد